تكاد أهداف العملية التعليمية من حيث مخرجاتها العملية في كثير من بلادنا العربية، أن تكون مقصورة على تخرج الطالب من الجامعة، بعد أن يحصل على شهادة جامعية، تؤهله للحصول على وظيفة، تؤمن له راتبا شهريا مجزيا، ومع انتهاء فصول الدراسة، وتخرج الطالب من الجامعة، تكاد صلته بالعلم والتعلم والقراءة، أن تنقطع تماما، ولا يعد يعتني بتطوير ذاته، وتنمية قدراته، ومتابعة ما يصدر من كتابات في مجال تخصصه، أو أن يكون له حظ دائم في القراءة المنتظمة
ذلك أن ما نشأ عليه من تقاليد اجتماعية، وتربى عليه من قيم مجتمعية شائعة، تجعل غاية المنى من التعليم تمكين المرء من الحصول على مركز وظيفي مرموق، يضفي عليه جاها اجتماعيا براقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعليم في بلادنا مرهق للطلاب، فهو يقوم على مطالبتهم وملاحقتهم الدائمة، بقضاء ساعات طويلة من أوقاتهم في الحفظ، واستذكار موادهم الدراسية، مع اعتبار مقياس الفهم والتفوق قدرة الطالب على حفظ المواد الدراسية، واستذكارها واسترجاعها وقت الامتحانات
فالمطلوب هو الحفظ وترديد تلك المعلومات، بصرف النظر عن مدى فهم الطالب لها، أو الاهتمام بما أحدثته العملية التعليمية في نفوس الطلاب، من إكسابهم مهارات تمكنهم من ممارسة التفكير بطريقة واعية، أو فتح الآفاق أمامهم لإتقان علم الملكات، التي بها يستطيعون أن يكونوا منتجين للعلم والمعرفة، وليس ببغاوات تردد ما حفظته دون علم ولا وعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو أن أحدنا تأمل منظر الطلاب وهم يذهبون إلى مدارسهم، لرأى أن حقائبهم المدرسية من ثقلها تكاد أن تجعل الطلاب يمشون وهم محدودبي الظهور، وقد حشوها بالكتب الدراسية والدفاتر الكثيرة، والتي سيدرسونها في كل يوم في المدرسة، ثم إذا عادوا من المدرسة انشغلوا بالواجبات والوظائف البيتية لساعات طويلة
التعليم في بلادنا، يقوم على التلقين، فالصورة النمطية السائدة تتمثل في أن يقوم المدرس بإلقاء المادة الدراسية في الصف، ثم يطالب الطلاب بأن يقوموا بحفظ تلك المادة، فينحصر عمل الطلاب بعدها في بذل الجهد لساعات طويلة، حتى يتمكنوا من حفظ تلك المادة، وليس أمام المدرس ليقيّم الطلاب، ويختبر مدى فهمهم وتفوقهم، إلا أن تكون أسئلته في الامتحانات، تمتحن مدى قدرة الطلاب على حفظ المواد الدراسية، واستذكارها واسترجاعها عند الامتحان
ومن المؤسف حقا أن علاقة الطالب بتلك المواد تنتهي فور تقديمه للامتحانات، فبعدها تجده يريد أن يتخلص من كل ما يربطه بها، فمشهد الطلاب وهم يمزقون دفاترهم المدرسية التي كانوا يحملونها طوال العام في نهاية السنة، تشي بأنهم يريدون أن يتخلصوا من حمل ثقيل أرهق كواهلهم طوال العام الدراسي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حتى نمطية التعليم القائم على التلقين، تصاحب الطلاب في مرحلة دراستهم الجامعية، فغالب محاضرات الجامعات تقوم على ذات النمطية، فالدكتور يقوم بإلقاء محاضراته، والطلاب يسمعون ولا يشاركون، وحينما يأتي وقت الامتحانات يقضون وقتا طويلا في المراجعة والحفظ، وبعد تقديم الامتحانات، تنقطع صلتهم بتلك المواد، ولا يعودون يستذكرون منها شيئا، من المؤسف حقا أن يتخرج الطالب الجامعي من الجامعة، وهو لا يستطيع أن يعد بحثا علميا قيما ومعتبرا، لأنه لم يتدرب على فعل ذلك طوال دراسته الجامعية، بل إنه حينما يطلب منه أن يعد بحثا، يذهب إلى الانترنت ليستل منها مادة جاهزة، فيقوم بتجميعها من مواقع مختلفة، من خلال القص واللصق، دون أن يبذل جهدا علميا يُذكر، وقد شاع ذلك وانتشر في الأوساط الجامعية، حتى بات أمرا معروفا ومشهورا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النظم التربوية السائدة في كثير من بلادنا العربية، ومن خلال المناهج التربوية المعمول بها، تغرس في الطلاب عادة حفظ المواد الدراسية من دون تفهم ولا تدبر، وفي الوقت نفسه لا تحثهم على التفكير وإعمال العقل، وممارسة التحليل والنقد، أو تمكينهم من الحصول على المعلومات، بجهودهم واجتهادهم الشخصي، الأمر الذي ينتج عنه نماذج تكون بمثابة أوعية تحفظ المعلومات، ولا تربي عقولا قادرة على البحث والتحقيق والتفكير والنقد والمراجعة، أو تترقى في ميدان التعليم فتكون قادرة على إنتاج العلم والمعرفة.
يقول صاحب المقال:
أعرف صديقا سافر منذ أكثر من ثلاثة عقود إلى دولة أوروبية طلبا للدراسة، إلا أن مكثه طال فيها حتى أصبحت موطن إقامته، انتقل بعدها إلى دولة أوروبية أخرى إلى أن استقر به المقام في السويد، جاء قبل ما يقارب خمسة عشرة سنة فتزوج واصطحب زوجته معه، قبل خمس سنوات جاء للأردن وهم يعتزم الإقامة فيها، بعد أن حصل من الحكومة السويدية على منحة للدراسة في الجامعات الأردنية، فاغتنمها فرصة للعيش بين الأهل والدراسة معا.
التقيته بعد سنة من إقامته في الأردن، وقد وجدته قد حزم أمره للرجوع إلى السويد، فسألته عن أسباب ذلك القرار، فقال كلاما كثيرا، وتحدث عن أسباب عديدة، على رأسها عدم قدرته على التكيف مع الحياة بكل تعقيداتها المختلفة، وكان مما ذكره ما يقضيه يوميا من ساعات طويلة، وما يبذله من جهد كبير، في متابعة أبنائه وبناته كي يقوموا بإنجاز وظائفهم المدرسية البيتية، مقارنا بين نمط التعليم في السويد وفي الأردن، قائلا أن أبناءه في السويد لا يحضرون إلى البيت لا كتابا ولا دفترا، ويقومون بكل ما هو مطلوب منهم في المدرسة، بينما في الأردن ينشغلون بحل الوظائف البيتية منذ رجوعهم إلى أن يذهبوا إلى الفراش، ومع ذلك فإن نمط التعليم في الأردن ـ وهو كذلك في كل الدول العربية ـ يُثقل ذاكرة الطالب بالحفظ والاسترجاع، بينما نمط التعليم في السويد، يركز على إكساب الطلاب مهارات تعلمهم ممارسة التفكير في مختلف المراحل الدراسية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
يــــــــــتـــــــــــبــــــــــع
في كتاب"السلطوية في التربية العربية" يبين الدكتور يزيد عيسى السورطي مساوئ وآفات التلقين، واصفا له بأنه طريقة تدريس لا تبني شخصية المتعلم، ولا تنمي عقله وتفكيره، بل تضعف إنسانيته، وتكاد تلغي كيانه، لأن التلقين كثيرا ما يمارس من خلال علاقة تسلطية، سلطة المعلم لا تناقش (حتى أخطاؤه لا يسمح بإثارتها وليس من الوارد الاعتراف بها)، بينما على الطالب أن يطيع ويمتثل
مرجعا انتشار التلقين في معظم مدارس الوطن العربي إلى جملة من الأسباب يقف على رأسها:
1. لجوء كثير من المعلمين إلى التلقين بوصفه وسيلة سهلة وآمنة لتوصيل كثير من المعلومات في وقت قصير، وينظر معظمهم إليه على أنه أداة فعالة للتوجيه والضبط.
2. إعداد المعلمين في كثير من كليات التربية ومعاهد المعلمين في الوطن العربي بطرق تلقينية، وهذه المشكلة، كما يقول د. ناثر سارة "تكاثرية" بطبيعتها، فالمعلم الذي يتم تكوينه بالتلقين يصبح أسيرا له.
3. يعتمد التقويم في معظم المدارس العربية على قياس قدرة الطلاب على التذكير والفهم، وإهمال القدرات العقلية العليا والمهارات والمجال الانفعالي، مما يجعل كثيرا من المعلمين يركزون على التلقين، وتعويد الطلاب على استقبال المعلومات واسترجاعها، والامتحانات التي تركز على قياس حفظ المعلومات تجعل المعلمين يركزون على تلقين تلك المعلومات للطلاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما يقابل التعليم التلقيني هو الاهتمام بتنمية التفكير، وإشاعة أنماط تعليم التفكير، التي تحفز الطلاب وتحثهم على إعمال عقولهم، وسلوكهم مسلك الباحث عن المعلومات، وإخضاعها للمراجعة والتقييم، لكن ـ وكما يقرر ذلك بعض الباحثين التربويين ـ "فإن التفكير أو على الأصح تعليم التفكير، مقموع صراحة أو ضمنا، بحيث لا يجرؤ المعلم والمتعلم على ممارسته بصوت عال، بسبب الضغوط السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية..".
لعل من الأهمية بمكان ضرورة استشعار القائمين على العملية التربوية، بأن المناهج الدراسية المعمول بها، لا تعلم الطلاب طرق وأساليب تعليم التفكير، بل تجذر في نفوسهم نمطية التعليم التلقيني، الأمر الذي يدفعهم إلى البحث الجاد والحقيقي عن الوسائل والإجراءات التي يمكن من خلالها إحداث النقلة المطلوبة من التعليم التلقيني، إلى تعليم التفكير، واكتساب المهارات وتربية الملكات
فمن تلك الإجراءات التي يقترح الدكتور السورطي اتخاذها لتحقيق ذلك، "ضرورة تخطيط التدريس بطريقة تركز على عمليات التفكير، على سبيل المثال وضع مهارات التفكير ضمن الخطط الدراسية على مستوى الدرس والوحدة، وإقامة التدريس على أسس نظرية معقولة تتعلق بكيفية تعلم الطلبة، والتركيز على أساليب تدريس ثبت أنها قادرة على تحسين عملية التفكير، كالشرح وحل المشكلات، وكتابة الملخصات، وتقويم التفكير وطرح الأسئلة، بالإضافة إلى زيادة وعي الطلاب بالعمليات العقلية، والاهتمام بالفهم بدلا من الحفظ، وإعطاء الأولوية للتعليم من أجل المعنى عن طريق ربط التعليم بخيرات الطلبة.."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع حبي
"مينو"
مجهود رائع و طرح هادف عزيزتي مينو
جزاك الله خيرا و بارك فيك
مودتي و تقييمي
لقد جلبت طرحا رائعا كعادتك…
فعلا تدهور المستوى الثقافي و التعليمي في العديد من البلدان العربية اذ لم اقل كلها يعود الى سياسة حشو الادمغة…
مواد كثيرة و مليئة بالدروس و الطالب يقف امامها عاجزا لا يستوعب كل هذا الكم الهائل من العلوم…
طرح رائع و هادف ..لك كل الشكر…
تعودنا مواضيعك الجميلة غاليتي…
و موضوعك مثل سابقيه معانا في الحملة…
بارك الله فيكن جميعا
يعطيك العافية
و مشكووره
شكرااااااااااا